بعد 24 في صباح شتوي قارس من يناير 2025، وقف نادي عاطف شاكر أمام بوابة مجلس مدينة ملوي، يحدق في المبنى ذاته الذي شهد على فصول معاناته الطويلة. كان الهواء البارد يلفح وجهه، لكن مرارة الذكريات كانت أشد قسوة، فقد كانت تلك الجدران شاهدة على سنوات من الألم والخذلان، وعلى ظلم لم يُمحَ أثره بعد.
أكثر من اثني عشر عامًا مضت منذ أن اقتُلعت لقمة عيشه ظلماً، ليس لخطأ ارتكبه، بل لقرارات تعسفية نسجها من كان يُفترض أنهم رموز العدالة. بدأ الكابوس عام 2002، حين أصدر المهندس عبد القادر أحمد، رئيس الحملة الميكانيكية، بالتنسيق مع المهندس عبد العظيم كريم، رئيس المدينة، ورئيس الشؤون القانونية إبراهيم العربي، قرارًا بخصم من راتبه دون تحقيق أو إنذار، قبل أن يُتوج الظلم بفصله تعسفيًا من وظيفته، كأنه جُرم لا يُغتفر.
لكن الظلم لم يتوقف عنده، بل امتد ليطعن براءة أطفاله. ففي غضون شهر واحد، صدر قرار جائر بنقلهم قسرًا من مدرسة الأقباط بنات الابتدائية الحكومية إلى مدرسة الغيطاس الابتدائية الحكومية، بأوامر من محافظ المنيا الأسبق اللواء أحمد ضياء الدين. لم يكن النقل مجرد إجراء إداري، بل رسالة واضحة لكسر الأب وإذلال أطفاله أمام زملائهم، وكأن الظلم بات لعنة تلاحق كل من يرتبط به.
ورغم كل ذلك، وخلال تلك السنوات العصيبة، لم يحصل نادي حتى على علاوة تشجيعية واحدة، رغم التزامه بعمله وعدم صدور أي جزاءات أو محاكم تأديبية ضده. كان يؤدي عمله بإخلاص، ويتحمل مسؤوليات أكبر ممن هم أقل منه خبرة ومكانة، ورغم ذلك كانوا يحصلون على العلاوة التشجيعية بانتظام كل ثلاث سنوات، بينما كان هو يُستثنى دائمًا، وكأنه مجرد اسم منسي في قوائم الموظفين، لا حق له في التقدير أو حتى الإنصاف، وكأن جهوده التي بذلها بصدق قد مُسحت تمامًا من ذاكرة الإدارة.
لكن نادي لم يرضخ. قاوم بكل ما أوتي من قوة.
تقدم بشكاوى لضابط مباحث البندر، الحسيني، فلم تُنظر. أرسل استغاثة لنجدة الطفل، فلم يكن للبراءة نصيب من العدالة. كتب رسائل مسجلة بعلم الوصول لرئيس مباحث أمن الدولة، ياسر الغندور، لكن الرد كان الصمت، وكأن الظلم أصبح اللغة الرسمية.
ومن مكتب إلى آخر، طرق كل باب قد يقوده إلى الإنصاف: وكيل وزارة التربية والتعليم بالمنيا، محمود وهدان، ثم وزير التعليم أحمد زكي بدر، وصولًا إلى رئيس الوزراء، ثم رئيس الجمهورية… لكنه كان يواجه نفس الجدار الصامت.
ثم جاء الأسوأ… لم يكتفِ جلادوه بإفقاده عمله وتشريد أطفاله، بل لفّقوا له تهمًا زائفة، ليسجن ظلمًا، ويُنتزع من بين أسرته، ويترك أطفاله نهبًا للجوع والحرمان.
خرج من السجن محطماً، ليس لأنه ضعيف، بل لأن آلة القهر كانت أقوى من صرخاته. خرج ليواجه مجتمعًا لم يرحم، فقد كان يُنظر إليه كالمتهم، حتى بعد ثبوت براءته.
ومرت الأعوام… وجاءت الثورة. سقط النظام وسقط رموزه، لكن الظلم بقي، متجذرًا في النفوس والعقول.
وفي عام 2014، وبعد 12 عامًا من الصبر والدموع، حصل نادي على حكم قضائي يقضي بعودته إلى عمله. ظن أن اللحظة التي انتظرها قد حانت، أن تلك الورقة ستعيد إليه كرامته، لكن سرعان ما اكتشف أن الظلم لا يزول بتوقيع على ورق.
عاد بالفعل، لكن ذات الأيادي التي ظلمته بالأمس ظلت ممسكة بمقاليد الأمور. رئيس الشؤون القانونية الذي كان سببًا في معاناته، أصبح رئيس مركز ملوي، وواصل سلسلة التنكيل، بنقله قسرًا إلى قرية الروضة، رغم أن محل إقامته بندر ملوي. وكأن 12 عامًا من الإقصاء لم تكن كافية، فأُجبر على قضاء 12 عامًا أخرى تحت رحمة التنمر والتهميش، ليُعامل كالغريب في بلده، مجرد رقم بلا قيمة.
وفي كل مرة يطالب بنقله إلى مركز المدينة، كان الرد باردًا قاسيًا: “لا مكان لك هنا.”
حتى جاء ذلك اليوم…
في 14 يناير 2025، عاد نادي إلى مجلس المدينة، ليس لأن العدالة انتصرت، بل لأن سنوات القهر أنهكت جسده وروحه. دخل المكان ذاته الذي أُهين فيه، متوقعًا أن يلقى على الأقل كلمة اعتذار، أو حتى نظرة احترام، لكنه لم يجد سوى السخرية.
استقبله بعض الموظفين بضحكات باردة وكلمات مسمومة:
– “من أتى بك إلى هنا؟ عد إلى الروضة، لا مكان لك بيننا.”
وقف ناصر ياسين، سكرتير المدينة، وأدهم من الشؤون القانونية، يتهامسان ويضحكان، كأن جراح الرجل مشهد ترفيهي في يوم عمل عادي.
تجمد نادي في مكانه، شعر بكل جرح قديم ينفتح من جديد. كان ينظر إليهم بعينين أرهقهما الزمن، عينان حملتا أكثر مما تحتمل النفوس.
لكنه رغم ذلك، لم ينكسر.
فهو يعلم في أعماقه أن حكايته لم تنتهِ بعد، ستظل شاهدًا صامتًا على سنوات الظلم، وصوتًا يصرخ في وجه مجتمع أدار ظهره للعدالة.
وربما… فقط ربما… ستعود العدالة يومًا ما.
لكن الخوف الأكبر… أن تأتي بعد فوات الأوان.